ناسك متعبد


(1)

من بعد وحدة رهيبة، وصمتٍ طويل، وبردٍ قارس، جلجل آذانُ الفجر لتنقشع البرودة والصمت والوحدة، فالذروة هي أن يطلع الفجر ويشق أذانه السكون وأنا ساجد، أدعو الله لها أن يحفظها ويحميها من الجميع حتى من نفسها.

فكلما اسمع ندائها في قلبي اقترب إلى الأرض راكعًا، أدعو الله لها أن يحفظها من نفسها قبل نفوس الاخرين. فعندما أغمض عيني في سجودي، حتى يتثنى للقلب أن ينفتح أكثر، فاراها أمامي بكامل فتنتها وسحرها وغرورها، وقوتها، وتمرد. وخيانتها، أيضًا. لكن هذا لم يدفعني إلا للإخلاص لها أكثر حد التفاني.

(2)

لقد سحرني جمالها وقوتها، من بعد ورع وزهد. فمن أجلها اعتنقت مذهبها، الذي به كل شيء مباح إلا هي. فتركت محرابي، وذهبت أتعبد جفاءها على مقاهيها المتعددة، ذوات القبلات المتضادة. فأبدلت شرابي بقهوتها، وعطري بدخانها، ووقتي أصبحت أقضيه في الهرولة خلفها فى شوارعها ودروبها لعلني أدركها، وأموالى صارت ملكها، وأمنياتي وأحلامي هي مجرد رضاها. أما نفسي فهي أسيرة عندها تستلذ بحبسها وجلدها.

كل المذاهب رضيت بقبول الفرد كلما خشع ووقر الإيمان في قلبه، إلا مذهبها، فكلما أخلصت خاشعًا من شدة رسوخ إيمانى بها، زادت هي في إيلامي بسوطها.

أخذتني سكرات جلدها، إلى حالة من السكر والتوهة فى رحابها وذاتها. فوجدتها ملكة متوجة بتاج جمالها وقوتها، علمت قدرها فارتقت فوق رقاب الجميع. تجلس عارية الفخذين واضعة إحداهما على الأخرى تنفث دخانها في رئتي بعد أن عصبت عيناي، فليس من حقى النظر ولا التنفس.

(3)

استفقت من سكرتي، فهرعت إلى محرابي مسحوقًا مكسورًا مهزومًا، فوجدتها سبقتني إليه وكأنها قدر يطاردنى. فرتلت آيأتي فوجدتني أهديها لها، فأقمت صلاتى فوجدتها قبلتى، حتى مسبحتي صارت تسبح لله من أجلها. فركعت لله ساجدا داعيًا لها

- فسألت نفسي: أي توفيق وسعادة تتمناها لها؟ هل سعادتها فى طريقها الذي تسلكه حتى وإن كان فيه هلاكي؟

- فجاوبتني نفسي: أن الإيمان يكمن فى السعادة المطلقة للمعشوق دون مقابل. فليس للعبد أن ينعم بالرخاء حتى يؤمن. ويكفينى أننى مؤمن عاشق.

(4)

حتى أتي يوم طلبت فيه طلبها الأكبر وأيضًا الأخير. فوجدت نفسي باسلاً متفانيًا في إرضائها حتى الاستشهاد عشقا. فبرأت روحي إلى بارئها، وبقيت هي تنفث فيّ دخانها وترتشف من فنجانها، وهي آمنة بطيف روحى المؤمنة العاشقة.

لعلها تحقق حلم روحي وجسدي يوما، وتأتي لتقف فوق عظامي زائرة مقامي، والذي أتمناه أن يصبح مزارًا مباركا للعاشقين. فزيارتها لي هو ذلك الحضن الأبدي الذي تمنيت.


تعليقات